الدكتور عصام بن هاشم الجفري
الحمد لله خالق الأكوان ومقلب الأزمان،أحمده جل شأنه أن مدَّ في أعمارنا حتى قاربنا رمضان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له المنزه عن الغفلة والنسيان وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله بعثه الله بالهدى والنور للثقلين الإنس والجان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم القيامة بإحسان.أما بعد:فاتقوا الله عباد الله ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً تفوزوا بجنة عرضها السموات والأرض وعدكم بذلك من لا يخلف الميعاد بقوله:{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّ } (مريم:63).أخي المؤمن الحبيب إني أشعر بك وقد تملكت قلبك فرحة غامرة نعم إني أشاطرك وأشاركك هذه الفرحة الوجدانية من مكاني هذا وجميع إخوانك المسلمين على وجه البسيطة يشاركوننا تلك الفرحة،كيف لا تفرح وهذه نسائم الإيمان قد هبت ألا تشعر بها تداعب وجهك بنداوتها ورطوبتها المحببة؟.كيف لا نفرح وهذه سحب الرحمات قد تجمعت وتأهبت لتمطرك بالرحمات فلا تتركك إلا وقد غُسلت من ذنوبك وخطاياك وأصبحت العبد المستحق لجنة ربك فكأني بك تراها من مكانك هذا!.إنها الفرحة بهذا الزائر الحبيب الذي لا يعودنا إلا مرة في العام،إنها الفرحة بقدوم رمضان. فهذا هو دأب المسلم الحق،كيف لايفرح بقدوم رمضان وقد فرح به من قبله نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم ويبشر أصحابه بقدومه قائلاً
(أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ))(النسائي،الصيام،ح(2079)).وروي عن عبادة مرفوعاً ((أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب فيه الدعاء،ينظر الله إلى تنافسكم فيه،ويباهي بكم ملائكته،فأروا الله من أنفسكم خيراً،فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله)).فهذه أبواب السماء توشك أن تفتح مع دخول رمضان فقلي أخي بربك ماذا تحب أن يرفع لك فيها؟.أتحب أن ترفع لك فيها نظرات لفحش القنوات؟. أنحب أن يرفع لك فيها ضحكات مع مسلسلات؟.أتحب أن يرفع لك فيها مشاركات في دوريات ومبارايات كروية أو غيرها؟.أتحب أن يرفع لك فيها ألعاب نارية ومفرقعات؟. أتحب أن يرفع لك فيها وجبات دسمات منوعات؟.أتحب أن أن يرفع لك فيها غفلات عن فاطر الأرض والسموات؟.لا والله وحاشاك أن تكون كذلك.حاشاك وأنت المسلم الذكي الألمعي الذي عرف الدنيا وقدرها فسارع لاغتنامها في ما يوصله لدار النعيم السرمدي، لا أخالك أخي إلا وقد عقدت العزم على أن ترفع لك من أبواب السماء المفتوحة العظيمة عمل عظيم أن ترفع لك ركعات،أن ترفع سجدات،أن ترفع لك ختمات،أن ترفع لك حسنات وحسنات،لا أخالك إلا وقد أخذت ورقة وقلماً ورسمت لنفسك خطة إيمانية محكمة لهذا الموسم العظيم.أخي الحبيب أن لم تفرح أنت بقدوم رمضان فمن يفرح فها هي أبواب الجحيم توشك أن توصد،وهاهي أبواب الجنة تفتًّح لك.أخي الحبيب لو أن عدو لك من الإنس يستغل كل ثانية ودقيقة في عمرك ليلحق بك الأذى،عدو لك لدود يسعى لتحطيمك ألا تفرح يوم أن يأتي من يصفده بالأغلال؟.لاشك أن الجواب بلى.فكيف لا تفرح بقدوم رمضان وهذا ربك الله الرحيم بك ينزل الأغلال ليصفد أعتى عدو لك الذي ناصبك العداء منذ اللحظة الأولى التي خلق الله فيها أصلك وجنسك ولا يزال يناصبك وأولادك العداء حتى قيام الساعة!.كيف لا تفرح أخي برمضان وهذه البشائر تترى عليك واستمع لجزء من تلك البشائر من أطهر فم تحدث على وجه الأرض اسمعها من نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم وكأنك تنظر لذاك الوجه الأنور والجبين الأزهر والكلمات تتحدر من بين شفتيه كاللؤلؤ وهو يقول
(مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))( البخاري،الصوم،ح1768).(( مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))( البخاري،الإيمان،ح36).الله أكبر ثلاث فرص للنجاة يعرضها عليك ربك الغني عنك وعن عبادتك وهو القائل في الحديث القدسي
يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ) فلا إله إلا الله ما أشد شقاء من حرم خير هذا الشهر،ولا إله إلا الله ما أشد خسارة من ضبع تلك الفرص الثلاث للنجاة من نار قال فيها الصادق المصدوق
(أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ))( لترمذي،صفة جهنم،2516.).فيا عبد الله قلي بربك كم يساوي عتقك من النار في يوم القيامة يوم يعاين المرء الهول أمام ناظريه يتمنى أن لو يفتدي نفسه من عذاب الناربأمه وأبيه وبزوجته وبنيه وبالناس أجمعين،يتمنى لو كانت له الدنيا بأسرها فيقدمها فكاكاً لرقبته من النار:{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ()وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ()وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ()وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ()كَلَّا إِنَّهَا لَظَى()نَزَّاعَةً لِلشَّوَى()تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى()وَجَمَعَ فَأَوْعَى }( المعارج :11-18)؛أخي الحبيب هاهي الفرصة تلو الفرصة بين يديك لتنجو بعبادة بسيطة في فترة وجيزة فماذا تنتظر؟.فربك وخالقك أرحم بك من أمك بل أرحم بك من نفسك،فرب عين دامعة أو ركعة خاشعة أو دعوة صادقة كانت سبباً في فكاك رقبة صاحبها من النار، فيا باغي الخير أقبل فإن لك شرفاً في الأرض وشرفاً في السماء.فاحرص أخي الحبيب أنت وحَرِّص أهلك وولدك على قيام الشهر من أوله حتى تحصل على هذه الفرصة العظيمة،واعلم رحمني الله وإياك أن قيام الليل يحصل بقيامك مع الإمام حتى ينصرف أخبر بذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم بقوله
(مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ)) (البخاري،الإيمان،ح36).{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }(الحديد:16).
الخطبة الثانية
الحمد لله ولي المتقين وناصر المظلومين ومجيب دعوة المضطرين،أحمده سبحانه وتعالى وأشكره وعد بنصر عباده المؤمنين وتوعد بمحق وسحق الكافرين،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له الملك الحق المبين وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله النبي الأمي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.أما بعد:فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن مما يزيد من فرح العبد المؤمن بقدوم هذا الشهر أنه شهر ارتبط بانتصارات للإسلام على الكفر وأهله؛ففي رمضان غلبت الفئة القليلة العدد الضعيفة السلاح القوية الإيمان بربها الفئة الكثيرة العدد القوية السلاح الكافرة في يوم بدر؛فدحر الكفر وأهله وانتصرت لا إله إلا الله،في رمضان كان فتح مكة وتطهيرها من رجس الكفر والشرك لتكون عاصمة الإسلام وقبلة المسلمين طاهرة من كل مظاهر الشرك الذي يتنافى مع عظمة البيت بها رمز التوحيد،بفتح مكة في رمضان تفردت دولة الإسلام بأرض الجزيرة أجمع وظهر للجميع أنه الدين الحق وأن الله ناصره،يوم فتح مكة في رمضان ذلت الرؤوس الكافرة المتغطرسة التي أذاقت المستضعفين من المؤمنين ألوان العذاب وانتصرت لا إله إلا الله،في رمضان كانت معركة عين جالوت الفاصلة والتي جاءت بعد أن اجتاح التتار دولة الخلافة بأكملها وقتلوا الخليفة وصبغت دماء المسلمين التي سفكت على أيديهم لون الأنهار ولم يبقى إلا دولة المماليك في مصر فقيد الله النصر على يدي الملك المظفر قطز وبدد جيش التتار وانتصرت لا إله إلا الله. وظلت تلك الانتصارات الرمضانية ذكرى للمسلمين على مر الزمن تغرس في نفوسهم أن النصر ليس وقفاً على العدة والعتاد وكثرة العدد وإنما وقفاً على الإيمان الصادق والالتصاق بجناب القوي العزيز وكانت تلك القاعدة التي تحتاجها الأمة في كل زمان ومكان:{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}( آل عمران:126.).والعرض يطول فما أشد فرح العبد المؤمن بشهر رمضان .